فصل: مطلب كلمة لوما ولولا في ربما وفي كلمات التهكم وعهد اللّه في حفظ القرآن دون سائر الكتب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجًا} يقال: هي اثنا عشر برجا، وأصل البرج: القصر والحصن.
{وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} يقول: حفظناها من أن يصل إليها شيطان، أو يعلم من أمرها شيئا إلّا استراقا، ثم يتبعه شِهابٌ مُبِينٌ أي كوكب مضيء.
{مَوْزُونٍ}: مقدّر. كأنه وزن.
{وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ} مثل الوحش والطير والسباع، وأشباه ذلك: مما لا يرزقه ابن آدم.
{وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ} قال أبو عبيدة: {لواقح} إنما هي ملاقح، جمع ملقحة. يريد أنها تلقح الشجر وتلقح السحاب. كأنها تنتجه، ولست أدري ما اضطره إلى هذا التفسير بهذا الاستكراهـ، وهو يجد العرب تسمي الرياح لواقح، والريح لاقحا. قال الطّرمّاح وذكر بردا مدّه على أصحابه في الشمس يستظلون به:
قلق لأفنان الريا ** ح للاقح منها وحائل

فاللاقح: الجنوب، والحائل: الشمال، ويسمون الشمال أيضا:
عقيما، والعقيم التي لا تحمل. كما سموا الجنوب لاقحا. قال كثير:
ومرّ بسفساف التراب عقيمها

يعني الشمال.
وإنما جعلوا الريح لاقحا- أي حاملا- لأنها تحمل السحاب وتقلبه وتصرّفه، ثم تحمله فينزل. فهي على هذا الحامل.
وقال أبو وجزة يذكر حميرا وردت ماء:
حتى رعين الشّوى منهن في مسك ** من نسل جوّبة الآفاق مهداج

ويروى: سلكن الشوى، أي أدخلن قوائمهن في الماء حتى صار الماء لها كالمسك، وهي الأسورة. ثم ذكر أن الماء من نسل ريح تجوب البلاد. فجعل الماء للريح كالولد: لأنها حملته وهو سحاب وحلّته، ومما يوضح هذا قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحابًا ثِقالًا} [سورة الأعراف آية: 57]. أي حملت.
{الصّلصال}: الطين اليابس لم تصبه نار. فإذا نقرته صوّت، فإذا مسته النار فهو فخّار، ومنه قيل للحمار: مصلصل. قال الأعشى:
كعدو المصلصل الجوّال ويقال: سمعت صلصلة اللجام، إذا سمعت صوت حلقه.
{مِنْ حَمَإٍ} جمع حمأة، وتقديرها: حلقة وحلق، وبكرة الدّلو وبكر، وهذا جمع قليل.
و{المسنون}: المتغير الرائحة.
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} في قول بعض أصحاب اللغة منه، وقد ذكرناه في سورة البقرة.
و{المسنون} أيضا: المصبوب. يقال: سننت الشيء، إذا صببته صبا سهلا، وسنّ الماء على وجهك.
{الغلّ}: العداوة والشحناء.
{فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ} أي اليائسين.
{وَقَضَيْنا إِلَيْهِ}: أخبرناه.
{قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ} أي أو. لم ننهك عن. أن تضيف أحدا؟!، وكانوا نهوه عن ذلك.
{لِلْمُتَوَسِّمِينَ} المتفرّسين. يقال: توسمت في فلان الخير، أي: تبينته.
{وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ} أي لبطريق واضح بين، وقيل للطريق: إمام، لأن المسافر يأتم به، حتى يصير إلى الموضع الذي يريده.
{وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} يريد: أمنوا أن تقع عليهم.
{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجًا مِنْهُمْ} أي أصنافا منهم.
{الْمُقْتَسِمِينَ}: قوم تحالفوا على عضه النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأن يذيعوا ذلك بكل طريق، ويخبروا به النّزّاع إليهم.
{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} أي فرّقوه وعضّوه. قال رؤبة:
وليس دين اللّه بالمعضى

ويقال: فرّقوا القول فيه. فقالوا: شعر، وقالوا: سحر، وقالوا:
كهانة، وقالوا: أساطير الأولين.
وقال عكرمة: العضه: السحر، بلسان قريش. يقولون للساحرة:
عاضهة.
وفي الحديث: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العاضهة والمستعضهة».
{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ} أي أظهر ذلك، وأصله الفرق والفتح.
يريد: أصدع الباطل بحقّك.
{حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي الموت. اهـ.

.قال الغزنوي:

ومن سورة الحجر:
{رُبَما يَوَدُّ}: ربّ للتقليل، فيكون معناه هنا أنّه يكفي قليل النّدم فكيف كثيره؟ أو العذاب يشغلهم عن تمنّي ذلك إلّا في القليل، أو يقينهم أنه لا يغني عنهم التمني أقل تمنيهم.
{كَذلِكَ نَسْلُكُهُ}: ندخله، أي: الكذب أو الاستهزاء، عن قتادة، ويكون ذلك بالإخطار بالبال ليجتنب. وقال الحسن: هو الذكر وإن لم يؤمنوا به.
{سُكِّرَتْ أَبْصارُنا}: سدّت. من سكر الشق، وليلة ساكرة: مكفوفة الريح والبرد.
{مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}: مقدّر، بمقدار لا ينقص عن الحاجة ولا يزيد زيادة تخرج عن الفائدة، ولو كان المراد الأشياء الموزونة فذكرها دون الكيل، لانتهاء الكيل إلى الوزن.
{وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ}: أي: ولمن لستم ترزقونه، أو هو منّة بالخول كما منّ بالمعايش.
{خَزائِنُهُ}: مقدوراته، لأنّ اللّه يقدر أن يوجد ما شاء من جميع الأجناس.
{لَواقِحَ}: بمعنى ملاقح على تقدير: ذوات لقاح أو لقحة.
والرّياح- ولاسيما – الصّبا ملقحة للسّحاب.
وفي الحديث: «الرياح أربعة: الأولى تقمّ الأرض قما، والثانية تثير السّحاب فتبسطه في السّماء وتجعله كسفا، والثالثة تؤلف بينه فتجعله ركاما، والرابعة اللّواقح».
{فَأَسْقَيْناكُمُوهُ}: أسقاه، إذا جعل لأرضه سقيا وإذا دعا له بالسّقيا.
{الْمُسْتَقْدِمِينَ}: الذين كانوا وماتوا. أو أراد المستقدمين في الخير والمستأخرين عنه.
و{الصّلصال}: الطين اليابس الذي يصلّ بالنّقر كالفخّار.
و{الحمأ}: الطين الأسود.
و{المسنون}: المصبوب، سننت الماء: صببته، أو المصوّر، من سنّة الوجه: صورته، أو المتغيّر، من سننت الحديدة على المسنّ فتغيّر بالتحديد.
{وَالْجَانَّ}: أبو الجنّ إبليس.
{خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} نار لطيفة تناهت في العليّان في أفق الهواء، وهي بالإضافة إلى النّار- التي جعلها اللّه متاعا- كالجمد إلى الماء والحجر إلى التراب.
{ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ}: موضع أن نصب بإسقاط في، أي: أيّ شيء لك في أن لا تكون.
{إِخْوانًا}: حال.
{مُتَقابِلِينَ}: لا ينظر بعضهم في قفا بعض.
{بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}: بظلمة، وقيل: بآخر الليل.
{وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ}: سر خلفهم.
{دابِرَ هؤُلاءِ}: آخرهم.
{لَعَمْرُكَ}: وحياتك، وقيل: مدة بقائك.
{لَفِي سَكْرَتِهِمْ}: سكرة الجهل غمورة النّفس.
{مُشْرِقِينَ}: داخلين في وقت الإشراق وهو إضاءة الشمس، والشروق: طلوعها.
{لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: للمتفكرين.
{لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ}: طريق واضح، كقوله: لَبِإِمامٍ مُبِينٍ، ومعناه: أنّ الاعتبار بها ممكن، لأنّ آثارها ثابتة مقيمة، وهي قرية سدوم.
و{أصحاب الأيكة}: قوم شعيب، بعث إليهم وإلى أهل مدين، فأهلك اللّه مدين بالصّيحة والأيكة بالظّلّة فاحترقوا بنارها.
{وَإِنَّهُما}: مدينة قوم لوط وأصحاب الأيكة، لَبِإِمامٍ مُبِينٍ: طريق يؤمّ ويتّبع.
{الْحِجْرِ}: ديار ثمود.
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}: الإعراض من غير احتفال، كأنّه يولّيه صفحة الوجه، وعند من لا يرى النّسخ هو فيما بينه وبينهم لا فيما أمر من جهادهم.
{سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي}: الفاتحة، لأنّها سبع آيات والذكر فيها مثنى مقسوم بين الرّبّ والعبد، وقيل: هي السّبع الطّول من أول القرآن.
وقيل: بل هي السّور التي تقصر عن المئين وتزيد على المفصّل، لأنّها مثاني المئين، والمئين كالمبادي فإذا جعلت السّبع المثاني فـ: من للتبيين، وإذا جعلت القرآن مثاني لتثنية الأخبار والأمثال فـ: من للتبعيض.
{أَزْواجًا مِنْهُمْ}: أصنافا وأشكالا.
{الْمُقْتَسِمِينَ}: أي: أنزلنا عليك الكتاب كما أنزلنا على أهل. الكتاب فاقتسموه، آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
وقيل: هم كفار قريش اقتسموا طرقات مكّة فإذا مرّ بهم مارّ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال بعضهم: هو ساحر، وقال آخر: هو شاعر، وآخر: مجنون وكاهن، فكانوا مقتسمين إمّا طرق مكة، أو القول في رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقوله: {عِضِينَ} يدلّ على اقتسام القول، أي: جعلوا القول في القرآن فرقا. من شعر وكهانة وأساطير كأنّهم عضوه أعضاء كما يعضّى الجزور، والأصل عضة منقوصة فكانت عضوة كـ: عزة وعزين وبرة وبرين.
وقال الفراء: العضة: السّحر، والجمع العضون.
وفي الحديث: «لعن اللّه العاضهة والمستعضهة»، أي: السّاحرة والمستسحرة.
ويقال: ينتجب غير عضاهة: ينتحل شعر غيره.
والتوفيق بين قوله: {لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، وقوله: {لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ} أنّه لا يسأل هل أذنبتم؟ للعلم به، ولكن لم أذنبتم؟، أو المواقف مختلفة يسأل في بعضها أو في بعض اليوم.
وقوله: {هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ}، مع قوله: {عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فالمراد هو النّطق المسموع المقبول.
{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ}: احكم بأمرنا.
{إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}: هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن الطلاطلة، وطيء الحارث شبرقة فلم يزل يحك بدنه حتى مات.
وقال العاص: لدغت لدغت، فلم يجدوا شيئا فمات مكانه.
وعمي أبو زمعة، وأصابت الأسود الآكلة، وتعلقت بالوليد سروة- أي دودة فخدشته فلم يبرح مريضا حتى مات.
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}: النّصر الموعود، أو الموت الذي هو موقن به.
قال عليه السلام: «ما أوحي إليّ أن اجمع المال فأكون من التاجرين، ولكن أوحي إليّ أن سبّح بحمد ربك» الآيتان. اهـ.

.قال ملا حويش:

تفسير سورة الحجر:
نزلت بمكة بعد سورة يوسف إلا الآية [85] فإنها نزلت بالمدينة وهي تسع وتسعون آية، وستمئة وأربع وخمسون كلمة، وألفان وسبعمئة وستون حرفا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: {الر} تقدم ما فيه، واللّه أعلم بما فيه، راجع ما قبلها وما تدلك إليه تجد ما يتعلق في معناه مفصلا {تِلْكَ} إشارة إلى أن ما تضمنته هذه السورة من الآيات بأنها هي {آياتُ الْكِتابِ} المعهود الذي وعد اللّه به حبيبه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بإنزاله عليه: {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} لكل شيء في الدنيا والآخرة، والتنكير يشعر بالتفخيم والتعظيم لشأن ذلك الكتاب الذي هو القرآن المدون في اللوح المحفوظ، ومن قال إن المراد بالكتاب التوراة أو الإنجيل لأن القرآن عطف عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه لا دليل له على ذلك إذ لم يرد ذكر لهما بعد حتى يشار إليها به، وأن مجيئه بوصفين كان زيادة في إجلاله واحترامه لما فيه من الآيات والأحكام الهامة لهذا المجتمع الإنساني، أما اقتضاء المغايرة فليس على إطلاقه.

.مطلب كلمة لوما ولولا في ربما وفي كلمات التهكم وعهد اللّه في حفظ القرآن دون سائر الكتب:

{رُبَما} بالتخفيف وتقرأ بالتشديد وهما لغتان في ربّ، وتكون للتقليل والتكثير وهي هنا للتكثير، وزيد عليها ما يليها الفعل لأنها من حروف الجر فلا تدخل وحدها على الأفعال كأن وأخواتها فإنها لا تدخل على الأفعال بدون ما، ولك أن تجعل ما هنا بمعنى شيء فتقول رب شيء، وتختص بالنكرات وتكون ما كافة لها عن العمل، وهي تختص أيضا بالماضي من الأفعال، ودخلت هنا على المضارع لأنه بمنزلة المحقق وقوعه، لأن كل ما هو مترقب من أخبار اللّه تعالى مقطوع في وقوعه لتحققه فيكون بمنزلة الماضي، وكأنما قيل هنا ربما ودّ {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يوم الجزاء والحساب في ذلك الموقف المهيب الذي ترتعد له الفرائض وتتفطّر له القلوب أي أن الكافرين يتمنون في ذلك اليوم {لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ} مؤمنين باللّه في الدنيا وذلك حين يشاهدون أهوال أحوال الآخرة أو حين يحل بهم الموت، إذ تتراءي لهم منازلهم ويعلمون أنهم كانوا في ضلال، لهذا يتمنون كثيرا أنهم كانوا مسلمين، ولكن لا فائدة من ذلك التمنّي إذ لا يقبل الإيمان حال اليأس من الحياة، فلئلا يقبل في الآخرة من باب أولى. فيكثر ندمهم حينذاك ولات حين مندم، ولهذا كانت ربما هنا للتكثير لأنهم كلما شاهدوا هولا من أهوال القيامة وكلما رأوا شفاعة الأنبياء لأتباعهم والمؤمنين بعضهم لبعض وكلما عاينوا رحمة اللّه بالمسلمين ونكاله في الكافرين والعاصين أمثالهم يتمنون أنهم كانوا مسلمين، ويكونون أكثر أسفا وحسرة وندما على ما فاتهم وخاصة حينما يدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار، أجارنا اللّه منها، ومن قال إنها هنا للتقليل أراد أنه أبلغ في التهديد والزجر، أي قليل التمني والندم كافيك في كونه زاجرا لك عما كنت فيه، فكيف بكثيره؟ ولأن أهوال القيامة تشغلهم عن كثرة التمني وانغماسهم بالعذاب ينسيهم الندم، وإنما يخطر ببالهم عند الأفاقة من سكراته، والأول أنسب بالمقام، إذ لكل مقام مقال.
قال تعالى: {ذَرْهُمْ} يا أكمل الرسل {يَأْكُلُوا} كما تأكل الأنعام ويتمتعوا بحطام الدنيا البالية {وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ} بكثرة الأموال والأولاد والنعم عن الإيمان بنا ويغويهم الشيطان بالانهماك في الكفر والشهوات والإعراض عن الطاعة لك {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه وذاقوا وباله، وفيه تهديد عظيم لمن أخذ حظه من الدنيا وترك نصيبه من الآخرة لأنه صدر الآية بكلمة ذرهم وهي للتهديد أيضا، فمتى يهدأ العيش لمن هو بين تهديدين تضمنا وعيدين إذا كان له قلب لين أو عين رطبة وفكر يقرّب له ما يستعبده غيرة؟ هذا، ولما كان طول الأمل ينسى الآخرة واتباع الهوى يبعد عن الحق والعياذ باللّه وهما ليسا من أخلاق المؤمنين قال تعالى: {وَما أَهْلَكْنا مِنْ} أهل {قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ} أجل مضروب ووقت معين لإهلاكها لا يتقدم ولا يتأخر، ولهذا قال ذرهم إذ لم تنزل آية القتال ولم يؤمر حضرة الرسول بقتالهم وقسرهم على الإيمان، وما قاله بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا عبرة في قوله، بل هي محكمة جاءت تقوية للقتال وتمهيدا له وتبيبنا لأسبابه، لأن من أراد أن يبطش بعدوه المخالف له وهو قوي لا يفاجئه ببطشه بل يتقدم له بالإنذار حتى إذا أيس من القبول لما يأمره به وينهاه عنه بطش به، فيكون معذورا، لأن من أنذر فقد أعذر، وهذا من هذا، قال تعالى: {ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها} المحتم لها في أم الكتاب بل تنتظره حتما {وَما يَسْتَأْخِرُونَ} عنه لحظة واحدة إذا حل أجله وقد أنث أولا وذكر ثانيا باعتبار اللفظ والمعنى {وَقالُوا} كفار مكة لرسولهم محمد صلّى اللّه عليه وسلم: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} القرآن المذكر للرشد والهدى والحق والصواب {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} وصموه بما هو براء منه لما يرونه حال نزول الوحي عليه كالمغشي عليه من ثقل ما يلاقي من الهيبة الإلهية ورزانة المنزل مما لا تطيقه الجبال الراسيات، راجع قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} وقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، وقولهم له هذا على طريق الاستهزاء إذ يقولون: {يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} إلخ فيعترفون أنه ذكره وينسبونه إلى الجنون، والتعكيس في كلامهم للاستهزاء والتهكم جار شائع، وقد جاء القرآن على ذلك المنوال الذي ألهمه لهم منزله لما هو معلوم في سابق علمه، قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}، ومثلها في القرآن كثير، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}، وقال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}، وقد جاءت هذه الآية على حد قوله تعالى حكاية عن فرعون {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} والمعنى أنك تقول قول المجانين بادعائك أن اللّه نزل عليك الذكر قال تعالى: {لَوْ ما} هي لو ركب معها ما، وهي لامتناع الشيء لوجود غيره مثل لولا، فتحتاج للشرط والجواب، ولكنها لا تجزم وإخواتها كذلك ومعناها هلا، وهذه أصلها هل ركبت مع لا، وتفيد التحضيض وهو طلب الشيء بحث وإزعاج، فعند إرادة المعنى الأخير لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر كما في الآية، وعند إرادة معنى امتناع الشيء لوجود غيره لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدّر عند البصريين وعليه قول ابن مقبل:
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ** ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري